هذه المشاهد خلاصة مركّزة نتيجة رصدي وتتبعي وتصويري لطريقة أو سلوك فطري فريد عجيب يتميز ويتفرد به الذكر أو الأب من طيور القطا Sandgrouse حينما يكون له صغار لم تبلغ مرحلة الطيران؛ حيث ينقل الماء من مصادره البعيدة عن الأفراخ التي لا تستطيع الوصول إلى المستنقعات، ويفعل الأب ذلك بواسطة غمر ريش بطنه وصدره في المستنقعات ثم يطير سريعا إلى أفراخه في أماكن تفريخها؛ حيث تكون متخفية تحت الشجيرات وخلف الصخور في تمويه يدل على الحذر الشديد في طيور القطا حتى وهي صغار. وهذه الطريقة من الصعب رصدها بل من النادر مشاهدتها في الطبيعة البرية لأن صغار طيور القطا تتميز بحذر فطري وخوف من المفترسات فتبقى غالبا متخفية في تمويه فريد. كما أن الأب والأم إذا أقبلا على الصغار يبقيان فترة قصيرة يراقبان المكان ثم يتتبعان أثر الأفراخ ثم يطلق الأب صوتا متميزا كأنه يصدره من جوفه لكي يُحفّز الأفراخ إلى الخروج من مخابئها.
الطريقة التي يفعلها ذكر طير القطا أو الأب في حمل الماء ونقله إلى أفراخه يتبعها لأن الصغار لم تبلغ مرحلة الطيران ولا تستطيع الوصول إلى مصادر المياه.
ففي كل صباح خلال مواسم تزاوج طيور القطا وتفريخها يطير الأزواج إلى مصادر المياه حتى لو كانت تبعد عن الأفراخ عشرات الكيلومترات. ويكرر الأب أثناء الشرب مرجحة جسمه متعمدا أن يغمر ريش بطنه وصدره في ماء المستنقع ويخوض فيه، وقد وهبه الله ريشا كشفت تقنيات تصوير حديثة أن فيه ما يشبه اللفائف الدقيقة إذا ابتلت تنفرد وتمتص الماء كأنها اسفنج رغم أن كمية الماء التي يمتصها الريش في كل مرة تساوي مقدار ملعقتي طعام فقط، لكنها كافية أن يطير بها سريعا إلى أفراخه البعيدة التي تنتظره وتستخدم مناقيرها الصغيرة وتجعلها كالممسحة تمررها على ريش الأب وتتلقى من صدره قطرات الحياة كأنها ترضعها.
ومن المدهش أن أنواعا من طيور البيئة الصحراوية كالقبرات تستغني عن شرب الماء هي وأفراخها مكتفية بسوائل تجدها في غذائها من الحشرات والديدان بينما طيور القطا تعتمد على أكل الحبوب والبذور ولا تستغني أبدا عن الشرب يوميا، وقد ألهمها الله ووهبها القدرة على سرعة ودقة الاستدلال على مصادر المياه ومعاودة الوصول إليها يوميا دون أن تخطئ أماكنها ولا تخطئ في الاستدلال على أماكن أفراخها، وأن تسقيها بهذه الطريقة.
والعجيب أن الزوجين يغادران يوميا مكان التفريخ ويتركان الأفراخ تتولى تغذية نفسها بنفسها، وقد ألهم الله الصغار الحذر الفطري وشدة الخوف من أنواع المفترسات مثل الثعابين والورل والثعلب والقط البري والقنفذ وغيرها؛ حيث تتنقل أفراخ القطا بحذر شديد للتغذية تحت الشجيرات وبجوار الصخور. ولو اقترب منها مصدر خطر فإنها تتمدد على الأرض وتحت النباتات ولا تتحرك فتندمج مع شكل وهيئة الأرض وصخورها، وفي هذه الحالة أو التمويه يصعب جدا مشاهدتها، حتى أن الإنسان إذا لمحها واختفت فينصح بالحذر إذا مشى باتجاهها لأنه قد يطأها بقدمه من شدة واتقان التمويه.
وإذا أتى الزوجان إلى مكان الأفراخ المتخفية في وقت يكون الأب حاملا الماء بريشه يهبط الزوجان أولا بحذر متظاهرين بأنهما يلتقطان الحبوب والبذور من الأرض، ثم بالتدريج يتتبعان مكان الصغار، وإذا أصدر الأب من جوفه صوتا مميزا سارع الصغار إلى الخروج من أماكن الاختفاء منطلقين إلى صدر الأب وبطنه لشرب الماء. ثم تعود للاختباء إذا غادر الأب والأم.
في تأمل هذا السلوك الفريد، أضع لهذه الحالة أو الطريقة عنوان "غريزة الرحمة" وهي غريزة تدفع مثل هذه المخلوقات الجميلة بفطرتها إلى رعاية صغارها فلا تتركها إلا إذا اعتمدت الأفراخ على نفسها، ولهذا قد ترى أن تصوير مثل هذا السلوك بالكاميرات وتوثيقه ونشره يجعل المتلقي متحفزا أو متهيئا إلى التدبر في خلق هذه الأحياء وسلوكها وطباعها الفطرية، فسبحان الخالق عزّ وجلّ الذي قال:
(أعطى كل شيء خلقه ثم هدى).
وللعلم فإن النوع من القطا في الفيديو هو لـ القطا مسنن الذيل الذي يسمى أيضا القطا العراقي "ويعرف بأسماء عامية في السعودية هي النّغّاق والمعاعي والأبيّض" Pin-tailed Sandgrouse واسمه العلمي Pterocles alchata
والخلاصة المهمة أن هاوي الصيد ينبغي أن يدرك أن طيور القطا تصبح خلال الربيع والصيف في موسم تزاوج وتفريخ، والأولى أن يتجنبها ويتركها إلى حال سبيلها رحمة بها وبصغارها لأن لها في الغالب أفراخا بعيدة عنها لا يدري عنها الصياد ولن يشاهدها بسبب شدة حذرها وخوفها وقدرتها على التخفي والتمويه، ولو صاد الكبار فإن الأفراخ الصغار ستموت لأنها تفقد من يرعاها ويجلب إليها بريشه الماء ليسقيها قطرات الحياة.