هذه خلاصة توثيق حالة عجيبة لم أصادف أكثر منها غرابة خلال دراستي وتتبعي ورصدي وتصويري المستمر للطيور البرية طوال عشرات السنين، وتكشف الحالة كيف أن غريزة الرحمة والخوف على الأفراخ الصغار تتحكم في سلوك وطباع أنواع من الطيور ومنها طير القطا المميز بحذره الشديد وخوفه من اقتراب البشر منه. في الفيديو ترى كيف أن الذَّكر "أو الأب" تخلى عن الخوف والحذر من البشر بسبب فقدان صغاره التي لم تبلغ مرحلة الطيران. في البداية لفت انتباهي أنه لا يطير حتى أني أوقفت السيارة ونزلت منها باتجاهه متوقعا أنه مصاب، لكن تأكدت أنه سليم وليس فيه إصابة، ثم نثرت له من الحبوب التي أحملها معي بالسيارة وأقدمها لتغذية الطيور خلال رحلات تتبعي لها ودراستها وتصويرها لكنه لم يُقبل عليها، ثم أتيت بحركات سريعة كي أدفعه إلى الفرار وأتأكد من أنه يستطيع الطيران، وفاجأني أنه طار وحام قليلا وعاد إلى نفس المكان غير مكترث لوجودي في المكان. ثم كررت إرغامه على الطيران خمس مرات، وفي كل مرة يطير ويحوم قليلا ثم يعود إلى نفس المكان! كان هذا سلوكا محيرا بالنسبة لي لأنه يُفترض أن يهرب ولا يعود، ولما صدر منه صوت مميز كأنه يطلقه من جوفه، تأكدت أن له أفراخا صغيرة لم تبلغ مرحلة الطيران، وأنه يبحث عنها لأن أفراخ طيور القطا في معيشتها الفطرية لا تستقر غالبا في عش بل تتحرك لمسافات قصيرة في محيط مكان تفريخها تبحث عن غذائها وتتخفى تحت الشجيرات والصخور منتظرة الأب والأم، أي أن الأفراخ تظهر وتبرز إذا أتى الأب الذي يحمل لها عادة الماء بريشه فتنطلق تلقف من ريش بطن الأب قطرات الماء أو قطرات الحياة علما بأن كبار طيور القطا بفطرتها تتميز بسرعتها وقدرتها على دقة الاستدلال على أماكن تفريخها وصغارها وأيضا شدة حذرها من المفترسات أو اقتراب البشر منها، فلا يُستغرب أن تهرب عن الإنسان من مسافة بعيدة، بينما هذا الذي تراه في الفيديو مختلف عن الحالة المعتادة. كما أن القطا متفرّد بقدرته على تكرار معاودة الذهاب إلى مصادر المياه التي يتردد عليها حتى لو كانت تبعد عشرات الكيلومترات عن أماكن تفريخه وصغاره دون أن يخطئ مساراته!
وتأكدت من صوته الخاص الذي أطلقه هذا الذكر أو الأب أنه ينادي على صغاره التي لم تظهر له مما يُفسر لي أن خوفه على الصغار جعله يتخلى عن الحذر المعتاد وتركني أقترب منه إلى حدّ أنه كان بمقدوري مسكه بيدي. ولهذا بدأت أبحث له عن صغاره تحت الشجيرات في المكان، لكن في الأخير شاهدت أثرا على الرمال لقط بري يبدو لي؛ وبنسبة كبيرة، أنه كان قد عثر على الصغار في غيبة الأب وصارت فريسة للقط.
هذه الحالة لهذا النوع من القطا Pin-tailed Sandgrouse الشائع باسم القطا العراقي، والذي يعرف في السعودية بأسماء محلية هي "النّغّاق، والمعَاعِي، والأبيّض، واسمه العلمي Pterocles alchata أقول أن هذه الحالة الفريدة مع نهايتها تؤكد لنا أن لتلك المخلوقات الجميلة طبيعة مُلفته في سلوكها تجاه صغارها تقوم على غرائز الرحمة والعطف والخوف والحذر، ولذلك ينبغي أن ننظر إلى الطيور البرية ونتعامل معها برحمة وعطف خاصة إذا كان الشخص من فئة هواة صيد الطيور فيتجنب صيدها بل يتركها إلى حال سبيلها في مواسم التزاوج والتفريخ لأن صيد كبار الطيور في هذه المرحلة سيؤدي حتما إلى موت الصغار لأنها تفقد من يرعاها وهي لا تقدر على الطيران.